أخذ يجر قدميه قى تثاقل شديد كأنهما مكبلتان إلى الأرض.. على أطراف أصابعه كان قد تسلل من منزله كالمعتاد حتى لا تسمعه
كالمعتاد أيضاً صفعته كلماتها الحادة التى لا زال ترن فى أذنيه .. إلى أين؟.. مصروف البيت؟.. حاضر
مد يده فى لوعة إلى جيبه شبه الخالى وأفرغها فى يدها المحدودة.. للمرة الألف أقول لك إن الولد بحاجة إلى دروس خصوصية.. حاضر
كالسيل الجارف انهالت الطلبات والأوامر على رأسه وهو يردد فى آلية.. حاضر.. حاضر
ودعته بالسيمفونية المعتادة الخالدة.. تحسرت على حظها العاثر الذى أوقعها فى رجل مثله
توارت ملامحها تماماً خلف ستار سميك من دموعها التى لم يعد يبالى بها كثيراً فى الأيام الأخيرة
فى لهفة شديدة استقبلت رئتاه أول ذرة هواء تدخل صدره المنقبض منذ أن استيقظ.. البيت لم يعد به هواء على الإطلاق
تسمرت قدماه كتمثال من الشمع فى انتظار الأتوبيس
فجأة.. وجد رأسه تحت عجلات تلك السيارة الضخمة المسرعة
*******
لم يتحرك أحد من الواقفين
هو نفسه لم يحاول أن يفعل شيئاً.. على العكس .. راقت له الفكرة كثيراً
لن يصبح بإمكانها مضايقته بلسانها الطويل.. ستعجز عن الحياة بدونه.. هو البليد العاجز غير الطموح كما كانت تقول
ربما تفرح بموته وتتزوج.. لا بأس.. راقت له الفكرة أكثر وأكثر
أخذت لذته تتضاعف كلما مرت سيارة أخرى فوق رأسه
لن يجلس مرة أخرى على مكتبه القديم المتهالك خلف تلال من الدوسيهات والأوراق.. أخيراً سوف يستريح قلمه من كثرة الإمضاءات
لن يحتمل رئيسه فى العمل بكل سخافته وتسلطه كما كان يفعل دائماً.. لن يمد يديه أول كل شهر إلى الصراف ليضع فيهما مرتبه المتبخر ..
مرقت سيارة أخرى فوق رأسه
أولاده سوف يفتقدونه.. لن يلمح ابتساماتهم البريئة التى لم تغتصبها الحياة بعد.. لن يتشرب حبهم بقبلاته.. ثغورهم الوضاءة لن تلعق جراحه كما تعود.. لن يحقق فيهم أحلامه وآماله الضائعة
وصل الأتوبيس.. تحرك فى سرعة ليجد له مكاناً به وجذب خلفه ظلّـه قبل أن تطأه عجلات سيارة أخرى قادمة