تسكن النملة شق الحائط وتتجول في عالم صغير لا يزيدعلى دائرة
قطرها نصف سنتيمتر, وتعمل طول الحياة عملا واحدا. لا يتغير هو
نقل فتافيت الخبز من الأرض إلى بيتها تتصور أنالكون كله هو
هذا الشق الصغير , وأن الحياة لا غاية لهاإلا هذه الفتفوتة من
الخبز ثم لا شيء وراء ذلك.. وهيمعذورة في هذا التصور , فهذا
أقصي مدى تذهب إليهحواسها.
أما الإنسان،فيعلم أن الشق هو مجرد شرخ في حائط والحائط لإحدي
الغرف والغرفة في إحدي الشقق , والشقة هي واحدة من عشرات
مثلها في عمارة والعمارة واحدة من عمارات في حي والحي واحد
من عدة أحياء بالقاهرة, والقاهرة عاصمة جمهورية وهذه بدورها
مجرد قطر من عدة أقطار في قارة كبيرة اسمها أفريقيا , ومثلها
أربع قارات أخرى على كرة سابحة في الفضاء اسمها الكرة
الارضية.. والكرة الأرضية بدورها واحدة من تسعة كواكب تدور
حول الشمس في مجموعة كوكبية.. والمجموعة كلها بشمسها
تدور هي الأخرى في الفضاء حول مجرة من مائة ألف مليون
شمس وغيرها مائة ألف مليون مجرة أخرى تسبح بشموسها في
فضاء لا أحد يعرف له شكلا وكل هذا يؤلف ما يعرف بالسماء
الأولي أو السماء الدنيا, كل هذا يعلمه الإنسان على وجه الحقيقة..
ومع ذلك, فما أكثر الناس أشباه النمل الذين يعيشون سجناء
محصورين كل واحد مغلق داخل شق نفسه يتحرك داخل دائرة
محدودة من عدة أمتار.. ويدور داخل حلقة مفرغة من الهموم الذاتية
تبدأ وتنتهي عند الحصول على كسرة خبز أو البحث عن شهوة ثم
لا شيء وراء ذلك.. برغم ما وهب الله ذلك الإنسان من علم وخيال
واختراع وأدوات وحيلة وذكاء, وبرغم ما كشف له من غوامض
ذلك الكون الفسيح المذهل
أكثر الناس بالرغم من ذلك قواقع وسلاحف ونمل كل واحد يغلق
على نفسه قوقعته أو درقته أو يختبئ داخل جحر مظلم ضيق من
الأحقاد والاضغان والأطماع والمآرب ونرى شخصاً مغلولا داخل
رغبة أكالة في الانتقام والثأر يصحو وينام ويقوم في قمقم من
الكوابيس, لا يعرف لنفسه خلاصا ولا يفكر إلا في الكيفية التي
ينقض بها على غريمه لينهش لحمه ويشرب دمه ونرى آخر قد
غرق في دوامة من الأفكار السوداوية وأغلق على نفسه زنزانة من
الكآبة واليأس والخمول! ونرى ثالثا قد أسر نفسه داخل موقف
الرفض والسخط والتبرم والضيق بكل شيء ولكن العالم واسع
فسيح! وإمكانية العمل والسعادة لاحد لها وفرص الاكتشاف لكل ما
هو جديد ومذهل ومدهش تتجدد كل لحظة بلا نهاية لقد مشى
الإنسان على تراب القمر! ونزلت السفن على كوكب الزهرة!
وارتحلت الكاميرات التليفزيونية إلى المريخ! فلماذا يسجن الإنسان
نفسه داخل شق في الحائط مثل النملة ويعض على أسنانه من
الغيظ أو يحك جلده بحثا عن لذة أو يطوي ضلوعه على ثأر؟ ولماذا
يسرق الناس بعضهم بعضا ولماذا تغتصب الأمم بعضها بعضا
والخيرات حولها بلا حدود والأرزاق مطمورة في الأرض تحت أقدام
من يبحث عنها؟ ولماذا اليأس وصورة الكون البديع بما فيها من
جمال ونظام وحكمة وتخطيط موزون توحي بإله عادل لا يخطئ
ميزانه.. كريم لا يكف عن العطاء ؟ لماذا لا نخرج من جحورنا..
ونكسر قوقعاتنا ونطل برءوسنا لنتفرج على الدنيا.. ونتأمل؟ لماذا
لا نخرج من همومنا الذاتية لنحمل هموم الوطن الأكبر ثم نتخطي
الوطن الى الإنسانية الكبري ثم نتخطي الإنسانية إلى الطبيعة وما
وراءها ثم إلى الله الذي جئنا من غيبه المغيب ومصيرنا أن نعود
إلى غيبه المغيب؟ لماذا ننسي أن لنا أجنحة , فلا نجرب أن نطير
ونكتفي بأن نلتصق بالجحور في جبن ونغوص في الوحل ونغرق
في الطين ونسلم قيادتنا للخنزير في داخلنا؟ لماذا نسلم أنفسنا
للعادة والآلية والروتين المكرور وننسى أننا أحرار فعلا . لماذا
أكثرنا نمل وصراصير؟